الرّهانُ الأميركيّ- إسرائيل بين الوَحدة والخَوفِ والعَجز

المؤلف: د. مروان الغفوري09.30.2025
الرّهانُ الأميركيّ- إسرائيل بين الوَحدة والخَوفِ والعَجز

يرى جدعون ليفي في مقالته الشهيرة في صحيفة "هآرتس" أن إسرائيل لم تبلغ من قبل هذا المستوى من الاعتماد الكلي على الولايات المتحدة، وكأنها تحولت إلى مجرد مستعمرة ضئيلة. ويؤكد أن هذه الحقيقة هي أخطر ما كشفت عنه الحرب الأخيرة على غزة.

تشير الدلائل المتراكمة إلى دقة ملاحظة ليفي، إذ استقبلت إسرائيل أكثر من 53 ألف طن من الذخائر الأمريكية لشن حرب ضروس على قطاع غزة المحاصر. وفضلاً عن ذلك، أمّنت لنفسها غطاءً سياسيًا وقانونيًا أمريكيًا شاملاً في جميع المحافل الدولية، مما سمح لها بممارسة الحرب دون قيود.

على الرغم من هذه المساعدات الهائلة، فإن الواقع الإسرائيلي الراهن يشير إلى أنها أصبحت أقل أمنًا مما كانت عليه قبل ستة عقود. فالقوة، بطبيعتها، عنصر غير مستقر، وقليل منها قد يزعزع استقرار كيانات ضخمة.

خلال تبرير اتفاق وقف إطلاق النار مع حزب الله، لجأ نتنياهو إلى الكثير من التمويه والتضليل، مع القليل من الحقيقة. ومن الحقائق التي ذكرها أن الولايات المتحدة كانت تلبي طلباته العسكرية بوتيرة متأخرة. تتضح هذه الحقيقة بجلاء عندما ننظر إليها من خلال عدسة جدعون ليفي، الذي يرى أن إسرائيل تشعر بالخوف والعجز عندما تكون وحيدة. حتى أن بعض التأخير في وصول الشحنات العسكرية قد يكون من بين الأسباب التي دفعتها إلى وقف الحرب، التي وصفتها بالوجودية، على حدودها الشمالية.

قبل ستين عامًا، كتب المشير عبد الحكيم عامر عن حرب يونيو/ حزيران قائلاً: "قامت الحرب، وانتصرت إسرائيل". كانت إسرائيل تنتصر بمجرد اندلاع الحرب، وكان نصرها يغير معالم الجغرافيا وطبيعة السياسة على المدى الطويل.

كانت تشن الغارات والهجمات على الدول بمفردها، مستقلة ولا تستأذن إلا نادرًا. لم تكن الولايات المتحدة جزءًا من السردية الصهيونية للبقاء حتى نهاية ستينيات القرن الماضي. حتى عندما كانت تنقض على الأراضي الفلسطينية قبل وبعد قرار التقسيم في عامي 1947 و 1948، كانت تعمل وفقًا لإرادتها السياسية وتصوراتها التوراتية.

اصطدمت بالانتداب البريطاني سياسيًا وعسكريًا في مناسبات عديدة، خاصة بعد أن أعلنت بريطانيا عن خارطة طريق سياسية في عام 1939 تحت عنوان "الكتاب الأبيض". ورداً على هذه الخطة، أعلن بن غوريون، الذي سيصبح المؤسس الأول للدولة: "سنقاتل الكتاب الأبيض وكأنه لا حرب، وسنخوض الحرب وكأنه لا يوجد كتاب أبيض".

بلغت الجرأة الإسرائيلية، أو لنقل الاستقلالية الإسرائيلية، حد الهجوم على السفينة الحربية الأمريكية "ليبرتي" في المياه الدولية للبحر الأبيض المتوسط، في اليوم الرابع من حرب يونيو/ حزيران عام 1967.

نتيجة لهذا الهجوم الجوي والبحري المركب، فقد 34 بحارًا أمريكيًا حياتهم، وأصيب حوالي 171 آخرين. لا تزال دوافع هذا الهجوم غامضة ومريبة، وتبدو رواية "الخطأ التقني" التي اتفقت عليها واشنطن وتل أبيب غير مقنعة. وقد مُنع الناجون والمصابون من الإدلاء بأي تصريح حول ما حدث.

في مطلع الألفية الجديدة، أعاد جيمس بامفورد، الصحفي ومنتج الأفلام الوثائقية، التذكير بتلك الحادثة، مؤكدًا أن إسرائيل أقدمت على ذلك الفعل لإبعاد الشهود عن مسرح الجريمة. والجريمة، كما يراها بامفورد، هي قتل مئات الأسرى المصريين وإلقاء جثثهم على الرمال القريبة من العريش.

إسرائيل تلك، صاحبة قرار الحرب والجريمة والقادرة على شن عمليات عسكرية ضد الولايات المتحدة وبريطانيا، لم تعد موجودة اليوم، كما يلاحظ ليفي. ما نراه الآن هو كيان يعتمد بشكل كبير على واشنطن، ويضع وجوده في يد قوة هي أبعد ما تكون عنه.

لنعد إلى البدايات. كان عرب ما بعد الحرب العالمية الأولى في حالة ضياع سياسي، ولم يكن هناك كيان عربي موحد. بمعنى سياسي، كانوا غير مرئيين أو لا أحد. عندما وقف الرحالة الإنجليزي مارك سايكس أمام الحكومة البريطانية في عام 1915 ليخبرها عن الفراغ الكبير في الشرق الأوسط، كان يتحدث بثقة ويرسم خطًا على الخريطة من عكا إلى كركوك. ثمّة فراغ لا بد من اقتسامه قبل أن تضع الحرب الأوروبية أوزارها، قال الشاب الثلاثيني سايكس.

رأت بريطانيا فراغًا سياسيًا، وادعت الصهيونية فراغًا ديموغرافيًا. في فيلم "هذه هي الأرض" عام 1935، يتدفق المهاجرون الصهاينة إلى "الأرض التي كانت خصبة ذات يوم وهُجرت وتحولت إلى أنقاض"، كما يقول عنوان فرعي للفيلم.

إذن، هي العودة إلى الأنقاض، إلى الفراغ. يظهر جمل وحيد في البداية، ومن خلفه عربي بلا ملامح، لا يظهر وجهه عمدًا لإخفائه. ثم تأتي بضعة جمال بلا راع وتذهب في الصحراء. تلك هي الحياة التي كانت سائدة في هذا الجزء من العالم منذ أن هجره اليهود في عام 60 للميلاد، كما تقول الرواية الإسرائيلية.

التحدي الذي واجهه الصهاينة الأوائل لم يكن سوى الصحراء والأنقاض. لم يكن هناك بشر في انتظارهم، ولم يكن للأرض صاحب. يمضي الفيلم ليُريَ العالم الغربي المستهدف صورة شديدة الحساسية والتأثير، حيث يسقط فلاح إسرائيلي من التعب والإرهاق، ويتلاشى جسده في التربة؛ التربة التي ستورق من خلاياه ولحمه.

لقد جعل الدم الصهيوني الصحراء تزدهر. لا يزال الخيال الغربي، الشعبي والسياسي، يرى البدايات الصهيونية على النحو الذي رسمته الأفلام الصهيونية الصامتة في مطلع القرن الماضي: أرض بلا شعب. ثم جاء العرب من اللامكان، تقول الرواية الصهيونية، وأطلقوا على أنفسهم اسم الفلسطينيين.

تضيق الجدران على إسرائيل، لا فقط من الخارج بل من الداخل أيضًا، إذ تتلاشى الديمقراطية لصالح اليهودية الراديكالية، ويبدو المستقبل رهينة توزيع الخوف والإدانات

يتشبث الإسرائيليون بتلك الرواية ويزرعونها في نظامهم التربوي والتعليمي. اليهود الذين انفصلوا عن التيار السائد وأعلنوا معارضتهم للصهيونية يروون القصة نفسها، وهي أنهم حتى مراحل متأخرة من العمر اعتقدوا أن فلسطين كانت أرضًا خالية، وأنه لم يكن هناك كيان بشري اسمه الفلسطينيون.

الفلسطينيون اختراع متأخر يعود إلى حقبة الستينيات، وربما ما بعدها، ابتكره يساريو ما بعد الكولونيالية. يتعلم الأطفال الإسرائيليون في المدارس ضرورة ترك مسافة بينهم وبين العربي.

العربي في إسرائيل لا يمكن أن يكون سوى عامل يدوي، ولا ينبغي بناء جسور معه أو الحديث إليه، ولا يملك ما يستحق القول، أما رأسه فمليء بالأوهام. وهو في الغالب لا أحد، أو انعكاس بصري للجمل والصبار.

مؤخرًا أعلنت نتفليكس عن فيلم جديد يحمل اسم "ماري"، يروي قصة السيدة مريم و"زوجها" جوزيف. وقد أُسندت الأدوار، مريم وجوزيف، لنجمين شابين من إسرائيل. في كل دورة صراع بين العرب وإسرائيل، تتعمد المؤسسات الثقافية الغربية تقديم الدعم الثقافي لإسرائيل، وثمة ما يؤكد هذا الادعاء في سياق تاريخي.

قبل حرب 1967 بأشهر، ذهبت جائزة نوبل للآداب إلى كاتب إسرائيلي متعصب وعنصري، اسمه عجنون. رأت لجنة التحكيم في أعمال عجنون ما يستحق الإشادة، فهي "تمثل رسالة إسرائيل إلى عصرنا". بعد سبعة أشهر من الجائزة، حدث عدوان يونيو/ حزيران، وكانت تلك رسالة أخرى ترسلها إسرائيل إلى عصرنا، كما دوّن غسان كنفاني في كتابه "في الأدب الصهيوني".

جوزيف ومريم سيحكيان للعالم قصتهما، المعاناة والقداسة والنصر، من خلال شخصيتين إسرائيليتين. وقد دعا ناشطون من بلدان عدة إلى مقاطعة الفيلم، لأنه لا يحترم آلام ونضال المرأة الفلسطينية التي كانتها مريم، وفقًا لخطاب المقاطعة على وسائل التواصل الاجتماعي. هل كانت مريم فلسطينية، أذلك أهم ما في الأمر؟

الجدل المثار حول هوية مريم دفع أبرز كتاب صحيفة يودشه ألغيماينه (Jüdische Allgemeine)، جاك أبراموفيتش، إلى كتابة مرافعة مطولة يقول فيها إن الفلسطينيين اختراع متأخر، وإن يسوع نفسه وُلد ومات يهوديًا.

أما خلافه مع اليهود حول تفسير الكتاب المقدس، فقد حدث في سياق الجدل الثقافي داخل الديانة اليهودية وليس خارجها. فالمسيحية، أو اليسوعية كدين مستقل، هي اختراع نشأ على أيدي مثقفين يهود غاضبين، من يهود ما بعد عام 70 للميلاد، يهود الشتات. الحقيقة التاريخية، كما يجادل أبراموفيتش، هي أن الرومان كتبوا على الصليب، قبل تنفيذ حكم الإعدام في المسيح، الكلمات التالية: Iesus Nazarenus Rex Iudaeorum، وتعني: يسوع الناصري، ملك اليهود. إذن، يسوع الناصري لم يولد يهوديًا فقط، ولكنه مات كذلك، بحسب أبراموفيتش.

تعاني السردية الصهيونية من انكشاف شديد وتضيق عليها الجدران، وفي سبيل الدفاع عن نفسها فإنها ستنسف كل شيء بما في ذلك المسيحية كدين. لم تتسع السردية الصهيونية لاحتمال أن يرى العالم شعب فلسطين الذي أخفته وراء نبات الصبار، وجعلته يركض خلف بعير الصحراء. ولكي تعيده إلى ذلك المكان المجهول، العدم المطلق، فقد ألقت عليه ما يزيد عن 53 ألف طن من المتفجرات "الأمريكية".

هل بمقدور الديمقراطية الإسرائيلية احتواء المعضلة الفلسطينية؟ أليس من الجيد، بما أن إسرائيل دولة ديمقراطية، تأسيس بلد من قوميتين؟ في الحقيقة، تبدو النسخة الإسرائيلية من الديمقراطية أكثر إشكالية من الطبيعة التوراتية للدولة.

وكما أن العنف التوراتي مفهوم أخلاقيًا، وفقًا للغطاء العلماني الغربي، فإن من حق الديمقراطية الإسرائيلية أن تكون استثناء، أي أن تتوفر على القدر الأدنى من الديمقراطية، وسيبدو ذلك مشروعًا ومفهومًا.

ناقشت جوديت بتلر، الفيلسوفة الأميركية- اليهودية، المسألة في كتابها "مفترق طرق"، ناقلة عن الليبراليين الغربيين إجابة من شقين: الديمقراطية اليهودية لا بد أن تبقى ليبرالية داخل المجتمع اليهودي وحسب، ومن غير الممكن أن تتسع لقوميتين. تقول الإجابة الأخرى: الديمقراطية اليهودية لا بد لها من استثناءات بالنظر إلى ما حل باليهود تاريخيًا، وعليه فإن من حقها أن تستبعد القومية العربية من المشاركة.

ما المخرج إذن؟ أبارتهايد كبير؟ وما العمل حيال انفجاراته المتكررة؟ فيما يبدو فقد رأى الصهاينة الأوائل، وهم يضعون أقدامهم على تراب فلسطين، أكثر من البعير ومن نبات صبار.

تبدو الصهيونية، والجدران تضيق عليها، بالغة التوتر. خاطب نتنياهو شعبه، محاولًا طمأنته، قائلًا إن جيش إسرائيل جعل "الأرض تهتز في بيروت". اهتزت أرض بيروت ولكن الحقائق بقيت ماثلة كما هي، وفي مركزها أن إسرائيل لم يعد بمقدورها إنتاج القصص كما يحلو لها. الضربة القادمة من المحكمة الجنائية الدولية حلّت على إسرائيل كالصاعقة.

لطالما قالت إسرائيل إنها بلد طاهر القدمين، وأن جيشها الأكثر أخلاقية في العالم، فهو منظومة تستند إلى الكتب الخمسة التي استلمها موسى في الجبل. أشياء ثقيلة هبطت على الكاهل الإسرائيلي خلال وقت قصير، والجدران لا تضيق من الخارج وحسب، بل من الداخل أيضًا.

يتنبأ إيلان بابه، المفكر الإسرائيلي المعروف، بتلاشي الدولة الإسرائيلية State of Israel لصالح شكل جديد من الدولة، أسماه State of Judaism أو دولة اليهودية. فقد نجحت اليهودية الراديكالية في إخراج اليسار الإسرائيلي من المشهد، وهي الآن في طريقها لتبديد الديمقراطية الإسرائيلية.

الدولة اليهودية، أو دولة اليهودية، سيقودها رجال يشبهون بن غفير وسموتريتش، ولا يوجد في نظامها الأساسي ما يحترم السلم. ولأنها كلّية الاعتماد على أميركا، كما لو أنها حصن غربي، فسوف تمضي في طريق مرهق لحراسة الحصن. قبل قرن من الزمن لم يكن هناك سوى الجمل ونبات الصبار، وكان ذلك هو التحدي الذي هزمه الصهيوني المؤسس. وفيما يبدو فإن الصبار كان هو النبتة الواطئة التي أخفَت الغابة.

الدم الصهيوني جعل الصحراء تزهر، بحسب السردية الإسرائيلية، لكن خلف الصبار كان هناك شعب كامل تم إخفاؤه، واليوم يواجه سبعة ملايين فلسطيني حبسًا خلف أسوار كبيرة

ترحّل إسرائيل وحلفاؤها المسائل المستعصية إلى المستقبل، ومن ذلك مشكلتها مع حزب الله الذي حلت عليه كارثة كسرته ولم تقتله. سيأخذ الصراع في المنطقة شكلًا جديدًا خلال العقد القادم، وتبدو إسرائيل بلا إستراتيجية خروج من المعضلة التاريخية سوى توزيع الخوف والإدانات يمنة ويسرة، حد اتهام بابا الفاتيكان بمعاداة السامية، والقول إن مواطني شرق أوروبا "يرضعون معاداة السامية مع حليب أمهاتهم"، كما غرّد كاتس، وزير دفاع إسرائيل، وفي واحدة من مناوشاته مع العالم.

تتوالى النوازل على إسرائيل، هذه المرّة من الفاتيكان. في كتاب له يحمل عنوان "الأمل" – يصدر في يناير/ كانون الثاني القادم- قال البابا فرانشيسكو، بابا الفاتيكان: ".. بحسب بعض الخبراء فإن ما يحدث في غزة يحمل سمات الإبادة الجماعية". أثارت المقاطع المسرّبة من الكتاب جدلًا كبيرًا، وهناك من رأى كلام البابا أكثر إضرارًا بسمعة إسرائيل من قرار الجنائية الدولية. الأحداث تنزع عن إسرائيل اللحاء الأخلاقي، وتحرمها حتى من الإسناد التاريخي الذي وفرته مآسي الشعب اليهودي عبر التاريخ.

تضيق الجدران فلا تجد الدعاية الإسرائيلية من وسيلة سوى تقسيم الشرق الأوسط إلى أشرارٍ – وهم الأغلبية – وأخيارٍ "إبراهيميين". لا يفوّت نتنياهو منصة دولة دون التبشير بسلام على طريقة "الاتفاق الأبراهامي". وليست مصادفة أن يقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات، ويتعرض مشجعو نادي مكابي تل أبيب للضرب في هولندا على أيدي مغاربة.

تسطيح معضلة الشرق الأوسط على الطريقة الأبراهامية خطر، تمامًا كما هي خطورة القول إن المهاجرين اليهود الأوائل لم يجدوا سوى صحراء وجمل في "تلك الأرض". صار الجمل الوحيد إلى سبعة ملايين عربي فلسطيني يعيشون على أرض فلسطين التاريخية، ومثلهم في الشتات. وليس أمام إسرائيل، من أجل احتواء المعضلة التاريخية، سوى أن تحبسهم خلف أسوار كبيرة، وسيقول العالم الغربي إن الحبس الإسرائيلي لملايين العرب لا تنطبق عليه شروط الأبارتهايد.

ولكن هل بالمقدور ترديد مثل هذا الهراء بلا حسيب وصوت بابا الفاتيكان، ومن خلفه المحكمة الجنائية الدولية، ومن خلفهما الجنوب العالمي برمّته، يقول إن ثمّة شرًا خالصًا تمارسه إسرائيل في فلسطين؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة